خطبة الجمعة القادمة بعنوان : صناعة العقول وأثرها في بناء الإنسان ، للدكتور محمد حرز
بتاريخ 11 جمادي الثانية 1446هـ ، الموافق 13 ديسمبر 2024م
خطبة الجمعة القادمة بعنوان : صناعة العقول وأثرها في بناء الإنسان ، للدكتور محمد حرز ، بتاريخ 11 جمادي الثانية 1446هـ ، الموافق 13 ديسمبر 2024م.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 13 ديسمبر 2024م بصيغة word بعنوان : صناعة العقول وأثرها في بناء الإنسان ، للدكتور محمد حرز.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 13 ديسمبر 2024م بصيغة pdf بعنوان : صناعة العقول وأثرها في بناء الإنسان ، للدكتور محمد حرز.
عناصر خطبة الجمعة القادمة 13 ديسمبر 2024م بعنوان : صناعة العقول وأثرها في بناء الإنسان .
أولًا: العقلُ نعمةٌ عظيمةٌ ومنةٌ كبيرةٌ.
ثانيـــًا: العقلُ وصناعةُ الإنسانِ .
ثالثــــًا: إيّاكَ وسوءَ الفهمِ .
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 13 ديسمبر 2024م بعنوان : صناعة العقول وأثرها في بناء الإنسان : كما يلي:
صناعةُ العقولِ وأثرُهَا في بناءِ الإنسانِ
د. محمد حرز بتاريخ: 11 جمادى الآخرة 1446هــ – 13 ديسمبر 2024م
الحمدُ للهِ الذي أحسَنَ كلَّ شيءٍ خلقَه، وبدأَ خلقَ الإنسانِ من طينٍ، ثم جعلَ نسلَهُ مِن سلالةٍ مِن ماءٍ مهينٍ، ثم سوَّاهُ ونفخَ فيهِ مِن رُوحهِ، فتباركَ اللهُ أحسنُ الخالقين، الحمدُ للهِ القائلِ في محكمِ التنزيلِ: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ (سورة ص: 29)، وأشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلّا اللهُ، وحدَهُ لا شريكَ لهُ، إلهُ الأولينَ والآخرين، وأشهدُ أنّ مُحمدًا عبدُهُ ورسولُهُ سيّدُ المرسلينَ وإمامُ المتقين، عن أبي جُحَيْفَةَ رضى اللهُ عنه قال ، قُلتُ لِعَلِيِّ بنِ أبِي طَالِبٍ: هلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ؟ قَالَ: لَا، إلَّا كِتَابُ اللَّهِ، أوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، أوْ ما في هذِه الصَّحِيفَةِ. قَالَ: قُلتُ: فَما في هذِه الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: العَقْلُ، وفَكَاكُ الأسِيرِ، ولَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بكَافِرٍ ( رواه البخاريُّ ، فاللهم صلِّ وسلِّمْ وزدْ وباركْ على النبيٍّ المختارِ وعلى آلهِ وصحبهِ الأطهارِ الأخيارِ وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.
أمَّا بعدُ …..فأوصيكُم ونفسِي أيُّهَا الأخيارُ بتقوَى العزيزِ الغفارِ{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (أل عمران :102)
يا آلَ بَيتِ رَسولِ اللَهِ حُبَّكُمُ ***فَرضٌ مِنَ اللهِ في القُرآنِ أَنزَلَهُ
يَكفيكُمُ مِن عَظيمِ الفَخرِ أَنَّكُمُ ***مَن لَم يُصَلِّ عَلَيكُم لا صَلاةَ لَهُ
عبادَ اللهِ :(( صناعةُ العقولِ وأثرُهَا في بناءِ الإنسانِ)) عنوانُ وزارَتِنا وعنوانُ خطبَتِنا.
عناصرُ اللقاءِ:
أولًا: العقلُ نعمةٌ عظيمةٌ ومنةٌ كبيرةٌ.
ثانيـــًا: العقلُ وصناعةُ الإنسانِ .
ثالثــــًا: إيّاكَ وسوءَ الفهمِ .
أيُّها السادةُ: ما أحوجَنَا إلي أنْ يكونَ حديثُنَا عن صناعةِ العقولِ وأثرِهَا في بناءِ الإنسانِ ، وخاصةً وإِنّ المُؤمِنَ أَكمَلُ النَّاسِ عَقلًا، وَأَرقَاهُمْ تَفكِيرًا، لِأَنَّهُ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا؛ إِذْ كُلُّ مَا يَرَاهُ مِن حَولِهِ يَدُلُّهُ عَلَى رَبِّهِ، وَرَضِيَ بِالإِسلَامِ دِينًا؛ إِذْ رَأَى فِي تَشرِيعَاتِهِ التَّكَامُلَ وَالتَّوَازُنَ وَالعَدلَ الَّذِي تَستَقِيمُ بِهِ الحَيَاةُ، وَرَضِيَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ نَبِيًّا؛ إِذْ عَلِمَ مِن حَالِهِ صِدقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَزُهدَهُ وَسُمُوَّ أَخلَاقِهِ وَتَأيِيدَ اللَّهِ لَهُ، وخاصةً ونحنُ نعيشُ زمانًا فسدتْ فيهِ العقولُ وانحرفتْ بسببِ بُعدِهَا عن منهجِ ربِّهَا وسنةِ نبيِّهَا ﷺ، وخاصةً سوءَ فهمِ النصوصِ فهمًا صحيحًا أدَّى إلى انتشارِ الفِرَقِ الضالةِ والمنحرفةِ والأفكارِ الطائِشةِ، والآراءِ الهَزيلةِ، التي تُشوِهُ صورةَ الإسلامِ بالليلِ والنهارِ في الداخلِ والخارجِ ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ .
العنصر الأول من خطبة الجمعة القادمة بعنوان : صناعة العقول وأثرها في بناء الإنسان
أولًا: العقلُ نعمةٌ عظيمةٌ ومنةٌ كبيرةٌ.
أيها السادةُ: العقلُ نعمةٌ عظيمةٌ ومنةٌ كبيرةٌ أنعمَ اللهُ بهَا علينَا ومنَّ بهَا علينَا، وفضلَنَا وميزَنَا على سائرِ المخلوقاتِ بهذه النعمةِ العظيمةِ قال جلّ وعلا: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا){ الإسراء: 70]،وَقَالَ تَعَالَى :{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]. وجعلَهُ سيّدَاً في هذا الكونِ بعقلِه وفكرِه قال جلّ وعلا:(( وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)) (الجاثية:13)، فإذا تمَّ العقلُ تمَّ معه كلُّ شيءٍ وإذا ذهبَ العقلُ ذهبَ معه كلُّ شيءٍ فهو عنوانُ الرشادِ وعمودُ السعادةِ قال بعضُ الحكماءِ: (خلقَ اللهُ الملائكةَ من عقلٍ بلا شهوةٍ وخلقَ البهائمَ من شهوةٍ بلا عقلٍ وخلقَ ابنَ آدمَ من كليهمَا فمَن غلبَ عقلُه على شهوتِه فهو خيرٌ من الملائكةِ ومن غلبتْ شهوتُه على عقلِه فهو شرٌ من البهائمِ، قالَ ربُّنَا: ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) سورة الأعراف : 179، هؤلاءِ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ؟ لماذا أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ لماذا ؟ لأن لهم أعينٌ لكنهم لا ينظرون بها إِلا إلى الحرامِ، لهم أذنٌ لكنّهُم لا يسمعونَ بهَا إلّا الحرامَ، لهُم قلوبٌ لكنَّهَا امتلأتْ بالحقدِ والبغضاءِ والحسدِ والكراهيةِ، لهُم عقولٌ لكنّهَا لا تفقُهُ شيئًا ولا تعرفُ شيئًا ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ.
والعقلُ يُميِّزُ بهِ الإنسانُ بينَ الحقِّ والباطلِ، وبينَ الخيرِ والشرِّ، ويُميِّزُ بهِ بينَ النافعِ والضارِ. ويُدرِكُ به الصلاحَ مِن الفسادِ، ويُدرِكُ بهِ المعلوماتِ الصحيحةَ النافعةَ والمعلوماتِ الخاطئةَ. والعقلُ هو مَنَاطُ التَّكْلِيفِ، وَأَسَاسُ الْفِكْرِ وَالتَّأَمُّلِ وَالتَّدَبُّرِ ولا تكليفَ لمِن لا عقلَ لهُ لحديثِ عليِّ بن أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه: أنَّ النبيَّ ﷺ قال: ( رُفِع القَلمُ عن ثلاثةٍ: عن النَّائمِ حتَّى يستيقظَ، وعن الصَّبي حتَّى يحتلِمَ، وعن المجنونِ حتَّى يَعقِلَ ) رواه الترمذي.
لذا أمرنَا اللهُ جلَّ وعلا باستثمارِ العقلِ وإعمالِهِ في فهمِ النصوصِ فهمًا صحيحًا، قال تعالى: ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) ( آل عمران: 190)، وقالَ جلَّ وعلا: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾( الحج:46) ،قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} ق: 37. قالَ المُفسِّرونَ: “لمَن كانَ لهُ عقلٌ”.
بل جعلَ الإسلامُ العقلَ دليلاً على استنباطِ الأحكامِ التي لا يوجدُ فيهَا نصٌ مِن كتابٍ أو سنةٍ. كما في حديثِ معاذٍ رضى اللهُ عنه لما أرسلَهُ ﷺ إلى اليمنِ قاضيًا ،، قال: كيف تَقضِي إذا عَرَضَ لكَ قَضاءٌ؟ قال: أَقضِي بكِتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ، قال: فإنْ لمْ تَجِدْ في كِتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ؟ قال: فبِسُنَّةِ رسولِ اللهِ ﷺ، قال: فإنْ لمْ تَجِدْ في سُنَّةِ رسولِ اللهِ ولا في كِتابِ اللهِ؟ قال: أَجتهِدُ رأْيي ولا آلُو. قال: فضَرَبَ رسولُ اللهِ ﷺ في صدْرِه، وقال: الحمدُ للهِ الَّذي وَفَّقَ رسولَ رسولِ اللهِ، لِمَا يُرضِي رسولَ اللهِ) رواه أحمد. فجعلَ مِن اجتهادِ العقلِ أساسًا للحكمِ ومادةً للقضاءِ عند فقدانِ النصِّ.
بل لقد أمرنَا الإسلامُ ونبيُّ الإسلامِ بالمحافظةِ على العقلِ محافظةً شديدةً، واعتنى به اعتناءً عظيمًا؛ فكان حفظُ العقلِ من الكلياتِ الستِّ التي اتفقتْ الشرائعُ السماويةُ على حفظِها، وهي الدينُ والنفسُ والمالُ والعرضُ والعقلُ والوطنُ، لذا حَرّمتْ الشريعةُ الإسلاميةُ على المسلمِ المفسداتِ العقليةَ التي تؤدِي إلى الإخلالِ بالعقلِ فيصبحُ صاحبُه كالمجنونِ لا يعرفُ الضارَّ مِن النافعِ، ولا الزوجةَ مِن الأمِ أو البنتِ. وهذه المفسداتُ العقليةُ الحسيةُ هي الخمورُ والمخدراتُ وما قامَ مقامهَا مِن المسكراتِ. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾ (المائدة90-91]. وعن عبدِ اللهِ بن عمرَ رضى اللهُ عنهما قال: قال النبيُّ ﷺ: (كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وكُلُّ مُسْكِرٍ حَرامٌ، ومَن شَرِبَ الخَمْرَ في الدُّنْيا فَماتَ وهو يُدْمِنُها لَمْ يَتُبْ، لَمْ يَشْرَبْها في الآخِرَةِ (رواه مسلم(
وأخطرُ أنواعِ الفراغِ: الفراغُ العقليُّ: حياتُه دمارٌ وآخرتُه بوارٌ بدليلِ تصايُحِ أهلِ النارِ فى النارِ بينَ يدَى الواحدِ القهارِ، قالَ اللهُ جلَّ وعلا عن هؤلاءِ: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أصْحَابِ السَّعِيرِ)[الملك:10].
يا ساهيًا يا غافلاً عمـَّا يرادُ لـهّ *** حانَ الرحيلُ فما أعددتَ مِن زادٍ
ترجُوا البناءَ صحيحًا أبدًا *** هيهاتَ هيهاتَ أنتَ غدًا فيمَا غدَا غادٍ
لذَا دينُنا ونبيُّنا ﷺ أمرَنَا بإعمالِ العقلِ وكيفَ لا ؟ والعقلُ مِن أعظمِ الأدلةِ على وجودِ اللهِ، قال تعالى: { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُون)[الطور:35]؛ ولهذا لما سمعَ جُبَيْرُ بنُ مُطْعِمٍ رسولَ اللهِ ﷺ يقرأُ سورةَ الطورِ فبلغَ هذه الآياتِ: {أمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ . أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ). [(الطور:35-37) وكان جبيرُ يومئذٍ مشركًا قال: “كادَ قلبي أنْ يطيرَ، وذلك أولُ ما وقرَ الإيمانُ في قلبِي)) رواه البخاري. ولما سُئلَ الأعرابيُّ: بم عرفتَ ربَّك؟ فقال: الأثرُ يدلُ على المسيرِ، والبَعْرَةُ تدلُ على البعيرِ، فسماءٌ ذاتُ أبراجٍ وأرضٌ ذاتُ فجاجٍ وبحارٌ ذاتُ أمواجٍ ألا تدلُّ على السميعِ البصيرِ؟
وَفي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ *** تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ واحِدُ
العنصر الثاني من خطبة الجمعة القادمة بعنوان : صناعة العقول وأثرها في بناء الإنسان
ثانيـــًا: العقلُ وصناعةُ الإنسانِ .
أيُّها السادةُ : اللهُ جل وعلا قسّمَ العقولَ كمَا قسّمَ الأرزاقَ ، فجعلَ في العطاءِ رزقًا وجعلَ في العقولِ رزقًا، واللهُ سبحانَهُ وتعالى لمَّا جعلَ في العقولِ والفهمِ رزقًا، قالَ تعالى: ( يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ( [فاطر:1]، وقالَ تعالَى عن نبِيَّيهِ الكريمينِ سليمانَ وداودَ (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا )) [الأنبياء/79]، فنبيُّ اللهِ داودُ كان على علمٍ وحكمةٍ وينزلُ عليه الوحيُ مِن اللهِ عزَّ وجلًّ؛ إلَّا أنّ اللهَ آتَى ولدَهُ سليمانَ فهمًا زائدًا على فهمِ أبيهِ (وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا) الأنبياء/79 . قال ابنُ القيم :وصحةُ الفهمِ نورٌ يقذِفُهُ اللهُ في قلبِ العبدِ يُميِّزُ بهِ بينَ الصحيحِ والفاسدِ، والحقِّ والباطلِ، والهُدى والضلالِ، والغيِّ والرشادِ.
فاللهَ اللهَ في الفهمِ اللهَ اللهَ في إعمالِ العقلِ في فهمِ النصِّ اللهَ اللهً في استثمارِ العقلِ في التفكرِ والتدبرِ. ولا تكنْ إمعةً كما قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ” لَا يَكُنْ أَحَدُكُمْ إمَّعَةً .قَالُوا وَمَا الْإِمَّعَةُ ؟ قَالَ يَجْرِي مَعَ كُلِّ رِيحٍ(
لذا قال اللهُ تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا) (الإسراء:36). لذا كان تحريرُ العقلِ هو المنحةُ الكبرى للإنسانِ وكان تحريرُ العقلِ من كلِّ فكرٍ ضالٍ منحرفٍ سعادةً للإنسان في الدنيا والآخرةِ، وكان تحريرُ العقلِ من اتباعِ الهوى واجبًا شرعيًا. وكان تحريرُ العقلِ من الخرافاتِ والأباطيلِ مهمًا للغايةِ، وكان تحريرُ العقلِ من الأفكارِ الهدامةِ غايةً لكلِّ موحدٍ، ولا يكونُ هذا التحريرُ إلا بموافقةِ ما جاءَ في القرآنِ والسنةِ ولا يكونُ هذا التحريرُ إلا باتِّبَاعِ هدىِ المصطفى العدنانِ صلى الله عليه وسلم
تعصِي الإلَهَ وأنتَ تزعمُ حبَّهُ *** هذا محالٌ في القياسِ شنيعٌ
لو كان حبُّك صادقًا لأطعتَــه *** إنّ المحبَّ لمن يحبُ مطيعُ
يَقُولُ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لَقَدْ سَبَقَ إِلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ أَقْوَامٌ مَا كَانُوا بِأَكْثَرِ النَّاسِ صَلَاةً وَلَا صِيَامَاً وَلَا حَجَّاً وَلَا اعْتِمَارَاً، وَلَكِنَّهُمْ عَقَلُوا عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مَوَاعِظَهُ، فَوَجِلَتْ مِنْهُمْ قُلُوبُهُمْ، وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النُّفُوسُ، وَخَشِعَتْ مِنْهُمُ الْجَوَارِحُ، فَفَاقُوا الْخَلِيقَةَ بِطِيبِ الْـمَنْزِلَةِ وَحُسْنِ الدَّرَجَةِ عِنْدَ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا، وَعِنْدَ اللهِ فِي الآخِرَةِ. كنز العمال.
نَعَمْ؛ بِالعَقْلِ الذي بِهِ عَقَلُوا عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، بِالعَقْلِ الذي بِهِ خَافُوا مِنَ اللهِ تعالى وَاليَوْمِ الآخِرِ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، بِالعَقْلِ تَدَبَّرُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾. بِالعَقْلِ ضَبَطُوا أَنْفُسَهُمْ في سَاعَةِ الغَضَبِ، بِالعَقْلِ مَا وَقَعُوا في الإِجْرَامِ بِسَبَبِ الشَّنَآنِ وَالبُغْضِ، بِالعَقْلِ كَانُوا مُنْضَبِطِينَ بِضَوَابِطِ الشَّرِيعَةِ في الرِّضَا وَالغَضَبِ.
لذا كَانَت عُبُودِيَّةُ التَّفَكُّرِ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَمَخلُوقَاتِهِ مِن أَعظَمِ العُبُودِيّاتِ، لِمَا تُثمِرُهُ مِن صَلَاحِ القَلبِ، وَزِيَادَةِ إِيمَانِهِ، وَتَثبِيتِ يَقِينِهِ، قَالَ تَعَالَى فِي وَصفِ حَالِ أَصحَابِ العُقُولِ السَّلِيمَةِ:( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَاختِلَافِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلبَابِ * الَّذِينَ يَذكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)
وبيّنَ اللَّهُ سُبحَانَهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ لَا يَستَفِيدُ مِن آيَاتِهِ وَبَرَاهِينِهِ وَدَلَائِلِهِ وَأَمثَالِهِ إِلَّا أَصحَابُ العُقُولِ السَّلِيمَةِ الَّذِينَ لَم يَتَلَطَّخُوا بِعَصَبِيَّةٍ وَلَا هَوًى، وَلَا عِنَادٍ وَلَا استِكبَارٍ، وَإِنَّمَا يَبحَثُونَ عَنِ الحَقِّ بِتَجَرُّدٍ وَإِنصَافٍ، قَالَ جل وعلا ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَومٍ يَعقِلُونَ))
وَلَمَّا كَانَ البَشَرُ مُتَفَاوِتِينَ فِي مَقَادِيرِ عُقُولِهِم، وَدِقَّةِ إِدرَاكَاتِهِم، وَحُسنِ فُهُومِهِمْ نَوَّعَ اللَّهُ حُجَجَهُ وَآيَاتِهُ، حَتَّى يَفهَمَهَا أَضعَفُ النَّاسِ عَقلًا، وَيَستَوعِبَهَا أَقَلُّهُمْ فَهمًا، رَحمَةً مِنهُ سُبحَانَهُ، وَفَضلًا مِنهُ وَإِحسَانًا. فَلِذَلِكَ كَانَ كُلُّ مَنِ استَعمَلَ عَقلَهُ لِلبَحثِ عَنِ الحَقّ وَالهُدَى بِتَجَرُّدٍ وَإِنصَافٍ هَدَاهُ عَقلُهُ إِلَى الإِيمَانِ بِرَبِّ العَالَمِينَ، وَالتَّصدِيقِ بِسَيِّدِ المُرسَلِينَ، وَالإِيقَانِ بِيَومِ الدِّينِ، وَمَنِ استَكبَرَ وَعَانَدَ وَأَبَى أَنْ يَستَعمِلَ عَقلَهُ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا، وَخَسِرَ خُسرَانًا مُبِينًا.
وَلِأَجلِ ذَلِكَ عَاتَبَ اللَّهُ الكُفَّارَ كَثِيرًا فِي كِتَابِهِ عَلَى عَدَمِ استِعمَالِهِمْ عُقُولَهُم فِيمَا يَنفَعُهُمْ، مِن التَّفَكُّرِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكرُكُمْ أَفَلَا تَعقِلُونَ، وَالتَّفَكُّرِ فِي حَالِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قَالَ سُبحَانَهُ: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ، وَكَثِيرًا مَا يُعَاتِبُهُم اللَّهُ بِقَولِهِ: أَفَلَا تَعقِلُونَ.
وَلِأَجلِ ذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ لِلعَقلِ حَدًّا مَحدُودًا، وَلَم يُعطِهِ إِدرَاكًا شَامِلًا لِلشَّاهِدِ وَالغَائِبِ وَالحَاضِرِ وَالمُستَقبَلِ، بَل جَعَلَهُ قَاصِرًا عَلَى المُشَاهَدَاتِ الحِسِّيّةِ الحَاضِرَةِ وَالسَّابِقَةِ، بِالفَهمِ وَالِاستِنبَاطِ مِنهَا فَحَسبُ، وَذَلِكَ لِيَعرِفَ الإِنسَانُ ضَعفَهُ وَعَجزَهُ، فَلَا يَطغَى بِعَقلِهِ كَمَا يَطغَى بِمَالِهِ وَجَاهِهِ.
لِذَلِكَ كَانَ مِنَ الخَطَأِ العَظِيمِ وَالسَّفَهِ الكَبِيرِ إِقحَامُ العَقلِ فِيمَا لَا يُدرِكُهُ، أَو تَحكِيمُهُ فِيمَا لَا يَستَوعِبُهُ، وَأَهَمُّ ذَلِكَ أَمرَانِ:
الأَوَّلُ: الغَيبُ المُطلَقُ، الَّذِي لَا يَعلَمُهُ أَحَدٌ مِن البَشَرِ: فَلَا دَخلَ لِلعَقلِ فِي إِدرَاكِ مَا غَابَ عَنَّا، وَمِن ذَلِكَ مَعرِفَةُ كَيفِيَّةِ ذَاتِ اللَّهِ وَكَيفِيَّاتِ صِفَاتِهِ سُبحَانَهُ، وَمَعرِفَةُ غَايَاتِ أَقدَارِ اللهِ وعِلَلِهَا، وَكَذَلِكَ مَعرِفَةُ مَا يَحصُلُ فِي المُستَقبَلِ، فَهَذِهِ أَبوَابٌ مُوصَدَةٌ أَمَامَ العَقلِ، لَا عَمَلَ لَهُ فِيهِ.
الثَّانِي: مُعَارَضَةُ الوَحيِ الرَّبَّانِيِّ: فَإِنَّ العَقلَ البَشَرِيَّ خَلْقٌ مِن خَلْقِ اللَّهِ، لَا يَرتَقِي إِلَى مُعَارَضَةِ شَرعِ خَالِقِهِ سُبحَانَهُ، وَلَيسَ مِن صَلَاحِيَّاتِهِ أَن يَنتَصِبَ حَكَمًا لِقَبُولِ مَا وَرَدَ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَو صَحَّ مِن سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، بَل غَايَتُهُ أَن يَفهَمَ شَرعَ اللَّهِ لِيُسَلِّمَ لَهُ، وَيَعمَلَ بِهِ.
تابع/ خطبة الجمعة القادمة بعنوان : صناعة العقول وأثرها في بناء الإنسان
وَاستَمِعْ إِلَى هَذِهِ النَّصِيحَةِ الجَلِيلَةِ مِن حَبرِ الأُمَّةِ وَتُرجُمَانِ القُرآنِ، عَبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا، لِمَن أَعمَلَ عَقلَهُ فِيمَا لَا مَجَالَ لِلعَقلِ فِيهِ، فَكَثُرَتْ عَلَيهِ الشُّبُهَاتُ، وَهَجَمَتْ عَلَيهِ الوَسَاوِسُ، فَقَالَ لَهُ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا: (امدُدْ بَصَرَكَ يَا ابنَ أَخِي، مَا السَّوَادُ الَّذِي تَرَى؟) قَالَ: فُلَانٌ، قَالَ: (صَدَقتَ، قَالَ: فَمَا الخَيَالُ المُسرِفُ مِن خَلفِهِ)؟ قَالَ: لَا أَدرِي، فَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا: (يَا ابنَ أَخِي، فَكَمَا جَعَلَ اللَّهُ لِإِبصَارِ العُيُونِ حَدًّا مَحدُودًا مِن دُونِهَا حِجَابًا مَستُورًا، فَكَذَلِكَ جَعَلَ لِإِبصَارِ القُلُوبِ غَايَةً لَا يُجَاوِزُهَا، وَحُدُودًا لَا يَتَعَدَّاهَا). أَخرَجَهُ ابنُ بَطَّةَ فِي الإِبَانَةِ الكُبرَى.اللَّهُ أَكبَرُ، قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ يَجِبُ أَن نَحفَظَهَا وَنَفهَمَهَا وَتَكُونَ نُصبَ أَعيُنِنَا جَمِيعًا: (كَمَا جَعَلَ اللَّهُ لِإِبصَارِ العُيُونِ حَدًّا مَحدُودًا مِن دُونِهَا حِجَابًا مَستُورًا، فَكَذَلِكَ جَعَلَ لِإِبصَارِ القُلُوبِ غَايَةً لَا يُجَاوِزُهَا، وَحُدُودًا لَا يَتَعَدَّاهَا).
فَالسَّعِيدُ مَنْ عَرَفَ بِعَقلِهِ كَمَالَ رَبِّهِ، وَاهتَدَى بِالتَّدَبُّرِ فِي آيَاتِ كَونِهِ وَشَرعِهِ إِلَى الإِيمَانِ بِوَحيِهِ، ثُمّ سَلّمَ لَهُ التَّسلِيمَ التَّامّ، وَأَذعَنَ لَهُ بِالِانقِيَادِ المُطلَقِ، وَسَكَنَ قَلبُهُ بِكَمَالِ الطُّمَأنِينَةِ، فَحَازَ الأَمَانَ وَالفَوزَ فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَم يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمنُ وَهُم مُهتَدُونَ.
والعقولُ تبنِي الإنسانَ، والعملُ يبنِي العقولَ، فبعضُ الناسِ قد يؤتيهِ اللهُ عقلاً، وتكونُ عقليتُهُ نادرةً، فيصابُ بالغرورِ مِن هذا البابِ فيخرجُ مِن الدينِ -والعياذُ باللهِ- وهو لا يشعرُ؛ لأنَّهُ لا يُسلمُ عقلَهُ للشرعِ والدينِ والعلمِ. ومِن أجملِ ما قيلَ في ذلكَ هذه المحاورةُ بينَ العقلِ والعلمِ:
علمُ العليمِ وعقلُ العاقلِ اختصمَا *** مَن ذَا الذي منهمَا قد أحرزَ الشرفَا
فالعلمُ قالَ: أنَا أدركتُ غايتَهُ *** والعقلُ قالَ أنا الرحمنُ بِي عُرفَا
فأفصحَ العلمُ إفصاحاً وقالَ لهّ: *** بأيِّنَا اللهُ في قرآنِهِ اتصفَا؟
فبانَ للعقلِ أنَّ العلمَ سيدُهُ *** فقبَّلَ العقلُ رأسَ العلمِ وانصرفَا
وأرجئُ بقيةً الحديثِ إلى ما بعد جلسةِ الاستراحةِ. أقولُ قولِي هذا واستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم
العنصر الثالث من خطبة الجمعة القادمة بعنوان : صناعة العقول وأثرها في بناء الإنسان
ثالثــــًا: إيّاكَ وسوءَ الفهمِ .
أيَّها السادة: سوءُ الفهمِ داءٌ اجتماعيٌ خطيرٌ، ووباءٌ خلقيٌ كبيرٌ، ما فشا في أمةٍ إلا كان نذيرًا لهلاكِها، وما دبَّ في أسرةٍ إلا كان سببًا لفنائِها، فهو مصدرٌ لكلِّ عداءٍ وينبوعٌ لكلِّ شرٍ وتعاسةٍ، وسوءُ الفهم آفةٌ من آفاتِ الإنسانِ، مدخلٌ كبيرٌ للشيطانِ، مدمرٌ للقلب والأركانِ، يفرقُ بينَ الأحبةِ والإخوةِ، يُحرَمُ صاحبُهُ الأمنَ والأمانَ، ويُدخلُهُ النيرانَ، ويُبعدهُ عن الجنانِ، فالبعدُ عنهُ خيرٌ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ. وكيف لا؟ والنبيُّ ﷺ قال كما في حديثِ معاويةَ رضى الله عنهما كما في صحيح البخاريِّ قال: قال النبي ﷺ ((مَن يُرِدِ اللَّهُ به خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ)) قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: أي يفهمُه. وَحَثَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الْفِقْهِ وَالْفَهْمِ، وَاسْتِخْدَامِ الْعَقْلِ فِيمَا خُلِقَ لَهُ؛ قَالَ ﷺ كما في حديثِ ابن مسعودٍ رضى الله عنه قال قال رسولُ اللهِ ﷺ ((نَضَّرَ اللهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَهَا وَوَعَاهَا، وَبَلَّغَهَا مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَا فِقْهَ لَهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ)) وقد دعا النبيُّ ﷺ لعبدِ الله بن عباسٍ فقال: اللهم فقههُ في الدينِ وعلمهُ التأويلَ. ولقد أخْرَجَ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: {تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إذَا فَقِهُوا، وَتَجِدُونَ خِيَارَ النَّاسِ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَشَدُّهُمْ لَهُ كَرَاهِيَةً وَتَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ ذَا الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ، قال ابن القيمِ رحمَهُ اللهُ: سوءُ الفهمِ عن اللهِ ورسولِهِ أصلُ كلِّ بدعةٍ وضلالةٍ نشأتْ في الإسلامِ قديمًا وحديثًا، وأصلُ كلٍّ خلافٍ في الأصولِ والفروع.
ثم قالَ ابنُ القيمِ: وهل أوقعَ القدريةُ –النفاةُ منهم والجبريةُ- والمرجئةُ والخوارجُ والمعتزلةُ والروافضُ وسائرُ طوائفِ أهلِ البدعِ فيمَا وقعُوا فيهِ إلّا سوءَ الفهمِ عن اللهِ ورسولِه؟!
مرّ على الخوارجِ عبدُ اللهِ بنُ خبابِ بنُ الأرت رضوان اللهُ عليهِ وعلى أبيهِ مع امرأتِهِ، فسألَ الخوارجُ عبدَ الله عن عليٍ بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان الخوارجُ قد كفّروا عليًّا بدعوَى أنّهُ حكَّمَ الرجالَ في كتابِ اللهِ، واللهُ جلَّ وعلا يقولُ: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) الأنعام:57
فانظرْ كيفَ يستشهدُ هؤلاءِ بالآياتِ، فلَمَّا سألُوا عبدَ اللهِ بنَ خبابٍ عن عليٍّ أثنَى عليهِ بمَا هو أهلُهُ، فلَمَّا أثنَى عبدُ اللهِ علىَ عليٍّ قتلَهُ الخوارجُ وذبحُوهُ كما تذبحُ النعجةُ، ثم سألُوا امرأتَهُ عن عليٍّ فأثنتْ عليهِ بما هو أهلُهٌ فذبحُوهَا كما تذبحُ النعجةُ وبقرُوا بطنَهَا واستخرجُوا جنينَهَا مِن بينِ أحشائِهَا، ومرَّ هؤلاءِ المجرمون وأيديهم ملطخةٌ بدماءِ عبدِ اللهِ وامرأتِهِ على حائطٍ للنخيلِ سقطت بعضُ تمراتِهِ خارجَ أسوارِهِ، فانحنَى أحدُهُم ليلتقطَ تمرةً ليأكلَهَا، فقالُوا: مَهْ مَهْ. ماذا تصنعُ يا رجلٌ؟! كيف تستحلُ لنفسكَ تمرةً لم يأذنْ لكَ صاحبُهَا؟! وأيديهم ملطخةٌ بدماءِ عبدِ اللهِ بنِ خبابٍ وامرأتِهِ. فسوءُ الفهمِ عن اللهِ ورسولهِ قضيةٌ مِن أخطرِ القضايا.
لذا قالَ اللهُ جلَّ وعلا: ((إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) الأنفال:22-23
إلهِي لَسْتُ لِلْفِرْدَوْسِ أهلاً ***وَ لاَ اَقْوَي عَلَي النَّارِ الْجَحِيْمِ
فَهَبْ لِي تَوْبَةً وَ اغْفِرْ ذُنُوْبِي*** فَاِنَّكَ غَافِرُ الذَنْبِ الْعَظِيْمِ
وَ عَامِلْنِي مُعامَلةً الْكَرِيْمِ ***وَ ثَبِّتْنِي عَلَي النَّهْج الْقَوِيْم
حفظَ اللهُ مصرَ من كيدِ الكائدين، وشرِّ الفاسدين وحقدِ الحاقدين، ومكرِ الـماكرين، واعتداءِ الـمعتدين، وإرجافِ الـمُرجفين، وخيانةِ الخائنين. كتبه العبد الفقير إلى عفو ربه د/ محمد حرز إمام بوزارة الأوقاف
_______________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف